النهضة الحسينية و الحلقة المفقودة

 


عندما توجهت قافلة الإمام الحسين، عليه السلام، الإصلاحية من المدينة المنورة إلى الكوفة بعد زيارة بيت الله بمكة كان، سلام الله عليه، قد ثقف لهذا الخروج مسبقاً ونادى في الناس: “من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقَاء الله نفسه، فلْيَرْحَل مَعَنا، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله”، على خلفية الحفاظ على بيضة الإسلام بعد أن تصدى للحكم المزيفون، متمثلاً في ذلك الوقت بيزيد بن معاوية، المتجاهر في الفسق، ولكي يبين للعالم أجمع؛ الإسلام الحقيقي حتى يسير الناس على جادة الصواب، و لِبث روح الشجاعة والتضحية في قلوب المجتمع باتباع قادة الدين الحقيقيين، سائراً على نهج جده المصطفى، وأبيه المرتضى لإقامة دولة العدل، وكل هذه الإصلاحات عبّر عنها الإمام قبل خروجه من المدينة بقوله: “إني لم أخرج أَشِراً ولا بَطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خَرَجْتُ لطَلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، عليه السلام”.

لبّى نداء الإمام الحسين، عليه السلام، المخلصون ممن خرج معه أو التحق به فيما بعد، وبقيت الجماهير المساندة لحركة الإمام الحسين، عليه السلام، المتمثلين بأهل الكوفة آنذاك ينتظرون قدومه كقاعدة جماهيرية تدّعي تأييدها لحركته والذين طلبوا من الإمام القدوم إليهم ليخلصهم من الظلم والانحراف.

وبهذا قد اكتملت السلسلة الإصلاحية – ظاهراً- والتي تعتمد على ثلاث حلقات رئيسة في إنجاح أي حركة إصلاحية وهي؛ أولاً: القائد الكفوء والمخلص للأمة، متمثلاً بشخص الإمام المعصوم، عليه السلام، والثانية: الدستور السليم وقد تجسد بالقرآن الكريم، والخالي من النقصان والذي هو سماوي من الله لا من نظريات البشر القابلة للخطأ والصواب، والثالثة: توفر العدد الكافي من القادة المخلصين المساندين لحركة القائد، كحبيب بن مظاهر، و زهير بن القين، ومن ذهب مع الإمام في مسيرته يرافقهم خط الجماهير الشعبية المخلصة والواعية المؤمنة بالقائد والمستعدة للتضحية معه ومساندته وهم ممن ادعى من أهل الكوفة آنذاك بيعتهم للإمام وطلبهم القدوم إليهم بآلاف الرسائل منهم.

لماذا الحلقة مفقودة؟!

ولكن عجلة هذه الحركة الإصلاحية قد تعطلت، بسبب خذلان أهل الكوفة، أي؛ في الحلقة الثالثة التي أصبحت مفقودة لعدم النضج الكافي للجماهير في إخلاصهم للقائد والتضحية في سبيل الدين، خاصة وإنهم سمعوا بمحاصرة الإمام الحسين في كربلاء، وأن الأمر يتطلب تقديم الغالي والنفيس في سبيل الرسالة الحسينية فنقضوا عهدهم في البيعة للإمام، لأنهم فضلوا مصلحتهم الشخصية على مصلحة الدين، مما أدى إلى استشهاد الإمام الحسين، عليه السلام، وكانوا مصداقاً للآية الكريمة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

وهذه الحلقة المفقودة لم تكتمل ايضاً في عهد النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، بمستوى الإصلاح العالمي، ولا في عهد الإمام علي، عليه السلام، ولو كانت هذه الحلقة بالوعي الكافي في عهده لما سُلبَ حقه في الحكم، وحتى في فترة حكمه واستلامه الخلافة فإن الأمة لم تصل إلى المستوى المطلوب والشاهد فيه، عدم طاعتهم له، وما قوله في هذا الشأن إلا دليل على ذلك عندما قام، عليه السلام، ذات مرة على المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأي، فقال: “ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله! ثم قال، عليه السلام: “وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، – ويقصد أصحاب معاوية- وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته.

ولهذا السبب بالذات اضطر الإمام الحسن، عليه السلام، لعقد الهدنة مع معاوية، لعنه الله.

عاشوراء و عودة الروح الى الجماهير

لذلك كان لحركة الإمام الحسين، عليه السلام، وصداها الدور الكبير في نضج هذه الحلقة المفقودة بمرور الزمن، وإن قُطفت ثمارها بعد استشهاده فنرى توالي الثورات بعده والندم الكبير الذي حصل في أهل الكوفة وغيرهم في خذلان تلك الحركة المباركة، فكانت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وثورة المختار، واستمرار الثورات في عهود أغلب الحكام الظلمة، و بتأييد أكثرها من الأئمة المعصومين، عليهم السلام؛ فبفضل تلك الحركة الثورية للإمام الحسين، عليه السلام، صحت الأمة من غفلتها، وكان لرعاية ومباركة الأئمة المعصومين، دوراً محورياً في نضج تلك القاعدة الشعبية جيلاً بعد جيل.

وبدأت تلك الحلقة تتجه نحو التكامل لتكون بمستوى الإصلاح العالمي ولكن بالعدد المطلوب من القيادات وإسناد الجماهير والذي لم يتحقق وصولاً لإمامة آخر المعصومين المهدي المنتظَر، عجل الله فرجه، فكانت الغيبة الصغرى والكبرى التي نعيش أيامها، وقد عبّر إمام دولة العدل، المهدي المنتظر، عجل الله تعالى فرجه، عن ذلك بقوله: “ولو أن أشياعنا – وفقهم الله لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا تؤثره منهم”. والتي باكتمالها سيظهر الإمام المنتظر وسيعلن دولته العالمية.

يوم الظهور امتداد للنهضة الحسينية

ومن هنا يتضح ما لثورة الإمام الحسين، عليه السلام، من تأثير كبير في ترسيخ قواعد الدين وإرجاع الناس إلى فطرتهم، ولذلك عمد الأئمة، عليهم السلام، من بعده على ترسيخ مبادئ الثورة الحسينية وإحياءها، ومباركة زيارته مهما كانت الظروف، وفي ظل الحكام الظلمة، لأنها تمثل المشعل الذي تحمله الأمة في كل زمان، للوصول إلى الحكم العالمي تحت ظل الإسلام العادل، وعلى يد المنقذ المهدي، عجل الله فرجه، الذي باكتمال العدد من القادة المخلصين ووصول الجماهير للمستوى المعتد به ليتحرك كما جده الحسين، عليه السلام، إلى الكوفة التي سيصلها بعد أن مُنع منها سيد الشهداء، عليه السلام، ويرفع شعار؛ “يا لثارات الحسين”، ولم يكن هذا الشعار للانتقام وإنما بمعنى تحقيق أهداف الإمام الحسين، عليه السلام، في التخلص من الظلم والانحراف و إقامة دولة العدل وتحقيق ما أراده الإمام الحسين، عليه السلام، من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح الأمة بعد خرابها، وبمعنى إن ظهور الإمام صاحب الزمان، عليه السلام، هو امتداد لثورة الإمام الحسين، عليه السلام، تنشد الإصلاح ابتدأها الإمام الحسين، عليه السلام، في أمة جده لتكون عالمية في زمن الإمام المهدي، عجل الله فرجه، عن طريق الحكم الإسلامي الذي سيظهره الله على الدين كله كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، (سورة التوبة، الآية 33).

ومن هنا نصل إلى نتيجة مفادها إن حركة الإمام الحسين، عليه السلام، هي البوابة الأكبر لحركة الإمام المهدي، عجل الله تعالى فرجه، العالمية وعليه؛ لا بد أن يكون صدى صوت الحسين، عليه السلام، عالمياً لتصل رسالته بالصورة التي أرادها عن طريق إحياء شعائره والالتزام بمبادئه بطاعة شجاعة، وإخلاص عميق، ومن كان ذا مال أو منصب، لايجب أن يحجبه عن نصرة الحق.

كما ينبغي على الجميع ان يكونوا ممن يسهم في بناء وإكمال تلك الحلقة المفقودة بنضج ووعي واستعداد لأنه، صلوات الله عليه، يحتاج إلى (313) قائداً واحدهم كالذي ضرب به الإمام الصادق، عليه السلام، مثلاً بالطاعة عندما أمره أن يدخل التنور وهو مستعر فدخله لثقته بكل ما يقوله قائده المعصوم، وكذلك يحتاج الإمام المهدي للقواعد الشعبية المساندة والتي تمتاز بالشجاعة وتقديم حب الله على حب الدنيا، لتكون عند حسن ظن المعصوم، وبهذا نكون قد حققنا أهداف ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، ومهدنا لظهور المهدي المنتظَر وإقامة دولة الحق العالمية.

تعليقات