فرائض الله جَنَة وجُنّة.. شهرُ رمضان أنموذجا


x
لقد فرض الله تعالى على عباده فرائض عدة تختلف كيفيتها وحيثياتها، ولكل فريضة من الفرائض لها زمنٌ وآداب وأركان، التي من خلالها يمكن أن تقبل تلك الفريضة أو لا تقبل، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والخمس، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والموالاة، والتبرؤ، وكل تلك الفرائض فيها تقرب العبد إلى الله تعالى، وصراط يوصله إلى الجَنة، ومن خلالها يتجنب الإنسان الرذائل لما لها من آثار على النفس؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما يؤكد القرآن الكريم، فتكون للمصلي جُنّة (ستراً) من النار.
ولم يقتصر الأمر بالآثار الأخروية على الفرد بنيل الثواب والردع عن المعاصي بتطبيقها، بل إن الله تعالى من لطفه وفيض كرمه، جعل من آثار تلك الفرائض والعبادات آثار دنيوية على الفرد ايضاً.


آثار شهر رمضان المبارك
فرض الله تعالى الصيام من كل عام في شهر رمضان المبارك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). سورة البقرة الآية 18، ونحن نمتنع فيه عن الأكل والشرب والجماع، كما نلتزم بصوم الجوارح، وقد جعل الله تعالى لهذا الفرض عدة فوائد نتطرق إلى بعضها:

الفوائد الإيمانية
تتمثل بزيادة الأجر والثواب بتطبيق فريضة من فرائض الله تعالى تجاه الإنسان وكذلك الوعد بالمغفرة خاصة وإن في هذا الشهر ليلة خيراً من ألف شهر، ولكن بشرط أن يكون صوم الجوارح مقترناً بالصيام عن الأكل والشرب، فقد ورد عن الإمام الباقر، عليه السلام، أنه قال: «يا جابر من دخل عليه شهر رمضان، فصام نهاره، وقام ورداً من ليلته، وحفظ فرجه ولسانه، وغضّ بصره، وكفّ أذاه، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه، قلت له : جعلت فداك. ما أحسن هذا من حديث! قال : ما أشدّ هذا من شرط»!
ومن الفوائد الإيمانية؛ استجابة الدعاء. عن الامام علي عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «أربعة لا ترد لهم دعوة ويفتح لهم أبواب السماء ويصير إلى العرش؛ دعاء الوالد لولده، والمظلوم على من ظلمه، والمعتمر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر». كما ورد عن الإمام الكاظم، عليه السلام، أنه قال: «دعوة الصائم تستجاب عند افطاره». وما أفضل أن يكون دعاؤنا بعتق رقابنا من النار، والفوز بالجنان، وحسن العاقبة، وغفران الذنوب.

الفوائد الأخلاقية
إن شهر رمضان بمنزلة دورة يتدرب فيها الإنسان على الخلق الحسن من خلال تقوية الإرادة وتنمية الفضائل وردع الرذائل، و أول هذه الفضائل؛ الصبر على الجوع، وايضاً على تلبية الشهوات، وتعويد اللسان على عدم الغيبة والنميمة والكلام الفاحش، وصوم الجوارح، وبهذا يكون الفرد قد تمرن على ضبط نفسه أكثر، كما ينبغي أن يتحلّى الفرد في هذا الشهر بالتواضع وكسر جدار الكبرياء، خاصة وإن في هذا الشهر يستوي الغني والفقير في الطاعة لله على تلك الموانع، قال الإمام الصادق، عليه السلام: «إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني و الفقير»، هذا التحدي النفسي، يمثل درساً في الرحمة، والكرم، وتقليل القساوة والبخل، فعندما يشعر المؤمن الصائم بجوع الفقير، ثم ينفق عليه، ستتلاشى لديه صفة رذيلة البخل، ليتحلى بالكرم المحمود، خاصة وإن الله تعالى جعل الصدقة فيه أعظم أجراً، وأكثر ثوابا منها في غيره، قال الإمام الصادق، عليه السلام: «من تصدّق في شهر رمضان بصدقةٍ، صرف الله عنه سبعين نوعاً من البلاء».
كما يقوي الصيام تنمية الإرادة بما يتضمنه من جو إيماني، وتهيؤ نفسي وذهني يمنح الانسان فرصة ذهبية للتدريب على التخلص من نقاط الضعف والسمات غير المرغوبة في الشخصية، وتحقيق شخصية اكثر اتزانا، و اقوى إرادة، واكثر ثباتا واطمئنانا، عن طريق الامتناع عن العادات السيئة والسلبية، فمن تدرَّب على أن يمتنع- باختياره- عن شهواته وملذاته، ويصرُّ على الامتناع عنها؛ لا لشيء إلا طاعة لله، فلا بد أن تضعف أمامه الأهواء والعادات، ويشعر بالنصر عليها، فالمحرمات على الصائم شديدة الصلة بحياته اليومية، وذلك لتعميق الأثر في تربية الإرادة في نفسه لتجعله أقوى على ترويضها، والتحرُّر من سطوة الغريزة ومكائدها، ولتقوية عزيمته وشحذ همته، فالصوم يحدُّ من طغيان الجسد على الروح، والمادية على الإنسانية، والعبودية على الحرية، فإرادة الإنسان عندما تخضع لإرادة الله سبحانه وتعالى لا تذوب لتموت، وإنما تذوب لتحيا وتدوم، فكيف بإنسان انتصر على شهواته الحلال الضرورية في شهر رمضان أن ينهزم أمام شهوات حرام؟ وبذلك يحقق الغاية في الارتقاء بروحه إلى مرتبة كمال الخشية من الله، وتمام الالتزام بما تقتضيه تلك العبادة من ضوابط وأخلاق وآداب.

الفوائد الاجتماعية
من آداب شهر رمضان؛ صلة الرحم والتواصل، وإنهاء التدابر، قال الإمام علي، عليه السلام، وهو موصياً ولديه الحسن والحسين، عليهما السلام: «وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع»، لذا فإن شهر رمضان الكريم، فرصة مميزة للتواصل وتقوية الأواصر الأسرية والاجتماعية؛ فصلة الرحم من القيم الدينية والإنسانية التي يجب الحفاظ عليها، فقد حَثَّ الدين على ضرورة صلة الأرحام، قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، وعلى مستوى التواصل الاجتماعي فقد أكدت الروايات على ثواب إفطار الصائم، قال الإمام الصادق، عليه السلام: أيما مؤمن أطعم مؤمناً ليلةً من شهر رمضان، كتب الله له بذلك مثل أجر من أعتق ثلاثين نسمة ًمؤمنةً، وكان له بذلك عند الله عزّ وجلّ دعوة مستجابة.
فشهر رمضان ينشط فيه التواصل الاجتماعي بين الأسر والأصدقاء، ومن ثم يساعد على تقوية الروابط الاجتماعية بين الصائمين، فهذا اللقاء العائلي الكامل المتكرر طوال شهر الصيام، لابد أن يقوي وحدة الأسرة، ويدعم روح التضامن والانسجام بين أفرادها، ويعين بعضهم بعضاً على طاعة الله والتقرب إليه والردع عن الرذائل، ويمتد ذلك إلى الأسر المسلمة مما يجعل المجتمع المسلم متماسكاً ومتمسكاً بتقاليده الإسلامية، كما أكد علم الاجتماع على أنه كلما ازداد اشتراك الناس في مجموعة من القيم والتقاليد الثقافية، أصبح تضامنهم الاجتماعي أكثر قوة وصلابة، وهذا ما يشترك به المجتمع المسلم في شهر رمضان.

الفوائد الصحية
وتتمثل بالفوائد التي تعود على الصحة البدنية والنفسية؛ فجو الألفة والمحبة باجتماع الأهل، وممارسة العبادات في هذا الشهر الفضيل، تسهم جميعاً بتحسين المزاج لدى الفرد، كما يُعد الصيام والإمساك في طيلة ثلاثين نهاراً، خير سيلة لعلاج العديد من الامراض، بل والوقاية منها، والمساعدة على الإقلاع عن بعض العادات السيئة مثل؛ التدخين، أما بدنياً؛ فالصوم يحافظ على صحة الجهاز الهضمي، ويُعد فرصة لتنظيم إفراز عُصارات الهضم كما و يساعد أيضاً على تقليل نسبة الكوليسترول في الدم، وينظم مستويات السكر، إضافة إلى تنظيم ضغط الدم، وتجديد الخلايا المناعية بالجسم بحسب ما يؤكد الأطباء على ذلك.

الفوائد الاقتصادية
فهو شهر تقسيم الارزاق، وجاء في الحديث عن الامام الصادق، عليه السلام، يوصي ولده ويقول: «إذا دخل شهر رمضان فاجهدوا أنفسكم فيه فان فيه تقسيم الأرزاق ويثبّت الآجال ويكتب وفد الله الذين يفدون إليه وفيه ليلة العمل فيها خير من العمل في الف شهر».
ومن هنا كان في شهر رمضان جانبان؛ الأول مادي، بالامتناع عن الأكل والشرب، وفيه تذكرة للفقراء وصحة جسدية، والآخر معنوي، يتم الامتناع فيه عن الذنوب، والتطبع على الصبر وغضّ البصر، وترك آفات اللسان، وغيرها حتى تتطهر نفسه من الادران، فطوبى لمن لم يحرم من آثاره ولم يقتصر امتناعه عن الأكل والشرب فقط، فنال الثواب، وعبّد طريق الآخرة، وكسب آثاره الدنيوية، ولم يكن من المشمولين بحديث النبي صلى الله عليه وآله: (كم من صائم ليس له من صومه الا الجوع والعطش) بل نال الأثَرين؛ الأخروي والدنيوي معاً.

تعليقات