هل تقنية الاتصال سبب لانحراف أبنائنا؟


ضياء باقر العيداني

شهد العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي وإلى القرن الحالي - الحادي والعشرين - قفزات علمية وتقنية كبيرة، بلغت ذروتها بتطور تقنيات وأساليب الاتصال المختلفة، وهو ما دخل في مجالات عدّة أفادت في الحقول المدنية وايضاً العسكرية، من الإنجازات التقنية الهائلة وخاصة عند انطلاق شبكة المعلومات الدولية (الأنترنت) للخدمة المدنية بعد أن كانت في أول تصميمها في الأصل للأغراض العسكرية، مما أدى إلى حدوث تغيرات كبيرة في كل الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها .. وهي في تطور مستمر، حتى أصبح العالم في متناول أي فرد يستطيع عن طريق الهاتف الذكي أن يتجول في أماكن لم تصل إليها قدماه بخيرها وشرها.
ورافق هذا التطور إيجابيات تتمثل بـالحصول على المعلومة بأسرع وقت ممكن، والسهولة في البحث وتطوير الذات فكرياً واجتماعياً من خلال الاستخدام الصحيح للتواصل مع الأهل والأصدقاء وغيرها كثير، فضلاً عن الفوائد الأخرى في المجالات الباقية.
ولكن لا تخلو هذه التقنية من سلبيات أشار إليها كثير من الدراسات وأثبتها الواقع تتمثل في تصفح المواقع الإباحية وإقامة العلاقات بين الجنسين، وتبادل الصور غير اللائقة وانتشار الأفكار المعادية للدين، ودعوة الشباب إلى عدم الالتزام بالقيم الدينية والتقاليد الاجتماعية، والانطلاق نحو التحرر والعمل بما يلبي الرغبات النفسية، حتى وإن كانت النتيجة؛ ارتكاب الجرائم وانتهاك الأعراض وحقوق وحريات الآخرين، وحتى الابتزاز والتشهير للحصول على المنافع المالية تحت التهديد بفضح بعض الأسرار من خلال اختراق الحسابات الإلكترونية.

أين يقف الآباء أمام الأنترنت؟

وقف الآباء مقابل هذه التقنية على عدة مسافات؛ فمنهم من تسمع عويله وتضجّره بسبب هذه التقنية وأخذ يصفها بأنها أصبحت هي رب الأسرة للبيت، ولا فائدة من وجود الأب، ولا لمنهجه التربوي، وكأنه يستسلم للأمر الواقع، ويترك هذا القادم الجديد (الأنترنت) يقيم علاقة وثيقة الى أبعد الحدود مع الأبناء والأسرة، و بدون قيد أو شرط! فيما نجد الآخر على النقيض منه؛ أخذ يمنع أبناءه قسراً من استخدام هذه التقنية حتى في عمر الشباب والنضوج الذهني، دون توفير قناعات مبررة لهذا المنع أو بديلاً عنها.
وكلا الأمرين غير صحيح بطبيعة الحال، فاستسلام الآباء يضع الأبناء لقمة سائغة للخضوع إلى مجموعة من المفاهيم والأفكار والرؤى الخاطئة التي تنتشر في شبكة الإنترنت وعلى مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، الى درجة أن يجد الابن نفسه عنصراً غريباً في الأسرة التي تربت على قيم ومفاهيم أخرى، ومن ثمّ؛ ستحصل الفجوة الواسعة بين الأب وابنه، وبين والأم وابنتها من حيث التوجه والأفكار والسلوك، وسيكون هذا الابن ساخطاً على مفاهيم آبائه غير منقاد لها وستكون هذه التقنية بالفعل هي ربّ الأسرة بالنسبة للأبناء.

وأما المفهوم الآخر الذي يتمثل في المنع بشكل كلي، فإنه يخلق انطباعاً داخل الابن بأنه ممنوع من هذا الأمر نتيجة لتسلط آبائه فقط، وتجده يعمل ذلك سراً في الدخول الى مواقع التواصل في خلوة من أهله، أو مع أصدقائه، أو في المقاهي وغيرها من الأماكن، لأن «كل ممنوع مرغوب» خاصة وهو يجد أن الكثير من أبناء جلدته وأقرانه ممن يتعاملون مع هذه التقنية بدون مانع أو يستخدمونه بصورة منضبطة، فتتولد في ذهنه صورة غير إيجابية عن موانع والديه، ونصائحهم غير المفهومة، فيندفع نحو التحرر من تلك النصائح والموانع حالما تسنح له الفرصة أو يستقل بحياته، فتراه يفترق بتفكيره اختلافاً كبيراً عما ورثه من أبويه.
الطريق الثالث
يواجه الآباء في هذه المرحلة من الزمن تحدياً كبيراً في ظل التطور السريع لوسائل الاتصال، مما يحتاج معه إلى فهم الواقع الذي نعيشه ومعرفة سلبيات هذه التقنية والعمل على توجيه الأبناء نحو ما هو إيجابي لعمل درع يجعلهم أكثر أماناً في التعامل معها، وأكبر هذه التحديات؛ تربية الأبناء، وما يتعلق به منهج وآليات صحيحة ينبغي أخذها بنظر الاعتبار:
1- تكوين علاقة ناجحة بين الأبوين والابن عن طريق التعامل الصحيح مع الابن لكي يشعر بأن الأبوين هما مصدرا الأمان له وينطبع ذلك بالعقل الباطن له بحيث تكون صورة إيجابية عن والديه بأن ما يقولانه حق وصدق وهما الأعرف بمصلحته، وهذا الجهد ينبغي تكثيفه مع الابن بمختلف مراحله العمرية، فيتولد جسر من الثقة بين الآباء والأبناء.
2- غرس المفاهيم والقيم عن طريق إرسالها إليه بصورة غير مباشرة عن طريق سلوك الآباء وما يسيرون عليه من مبادئ ينعكس تطبيقها على الأبناء، وبالطريقة المباشرة أيضاً عن طريق الحوار معه وإقناعه بهذه القيم، بعد تعريفه عليها.
3- توضيح مخاطر الإدمان على الأنترنت، والتنبيه على عدم الاستخدام الخاطئ لتقنية الاتصال، وهذه النقطة مهمة وحساسة خاصة مع الأطفال في سنيهم السبع الثانية فنراعي وقت قضائه مع الألعاب والتطبيقات، والذي من المفترض أن يكون قليلاً جداً ولا يتجاوز الساعة يومياً حفاظاً على صحته وخاصة؛ صحة البصر، وحتى نفسح المجال أمام غريزة اللعب الهادف، كما نراعي خطورة دخوله المواقع غير الأخلاقية بقصد أو بدونه، وعلى حين غفلة منّا، حيث يكون البحث والوصول  اليها بدافع الفضول وحبّ الاطلاع، بل يكون تحت إشراف الوالدين مائة بالمائة، وكلما تقدم في عمره، زاد في وقت استخدام التقنية في الأمور المفيدة، من تنمية مواهبه، واكتساب المعارف والتجارب، وهذه المتابعة الودّية تجعل يشعر بتفهّم الآباء لما يفكرون به، حتى يصلوا الى مرحلة عمرية يكون بإمكانهم استخدام تقنية الاتصال لوحدهم مع كسبهم الثقة العالية من الآباء.
4- إثارة الوازع النفسي في داخل الطفل، وتنمية روح الرقابة الداخلية فيه، فقد ألهمنا الله - تعالى- في داخل كل إنسان رقيباً من نفسه عليه وهو الضمير، وكل إنسان يولد بضمير حييّ وعلى الآباء الإبقاء على حياة هذا الضمير، وتنمية حسّ اليقظة فيه، عن طريق إثارة الحوافز المعنوية مثل؛ الثواب، وايضاً؛ إثارة المحاذير من العقاب والنتائج السيئة، فالطفل الذي يُثاب على العمل الحسن ويعاقب بالحرمان من بعض الأشياء والأمور المحببة لديه، يتكون لديه ما يمكن تسميته‏ بـ «لوم الضمير‏»‏ عند ارتكابه أي خطأ في المنزل أو الشارع أو المدرسة، مما يغنينا عن التوسّل بالعنف والعقاب الجسدي، كما ينبغي أن يكون لوم الضمير ليس بمفهوم جلد الذات الذي يؤدي إلى مشاكل نفسية بل بالمقدار الذي يبعده عن الخطأ.‏
إن الضمير المودع في نفوس أبنائنا ينمو ويبقى حيّا طرياً باعترافنا دائماً بأي خطأ يصدر منّا بحقه، أو بخطأ يصدر إزاء أي شيء يحصل أمامه، وعدم المكابرة والاستعلاء، لاسيما اذا انتقدونا على أعمال تخالف ما ينصحون به، فينبغي احترام هذا الرأي وعدّه مثل رأي القاضي والحكم الذي لا يقبل أي مخالفة لقانون الضمير، والعالم عنده إما أبيض أو أسود.
5- تقوية شخصيته وذلك باحترامه وحبه، ليكون محباً لنفسه وللآخرين، ومحترماً لنفسه وللآخرين، مما يمكنه من تنمية ثقته بنفسه، فيكون ذا شخصية سوية معتدلة خالية من التعقيدات والتراكمات المكبوتة في داخله، والتي تنعكس على سلوكه بالسلب، وإعطائه الشعور بالكرامة لا الذل أمام الآخرين، فعندما يجد خطأ، يكون له القدرة على قول «لا»، لا أن ينشأ على مبدأ الـ «نعم» حتى على حساب نفسه وعلى حساب الدين والقيم.
قال أمير المؤمنين، عليه السلام: «من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته»، ونرى أمير المؤمنين، عليه السلام، قد جعل مفاهيم تُطبق على مصاديق عدة منها ما قاله لابنه الإمام الحسن، عليه السلام، يوصيه فيها: «أكرم نفسك عن كل دنية، وإن ساقتك إليها الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً»، فعندما يكون ذا شخصية قوية يتنزه عن الدنية.
ومن هنا يجدر بنا الإشارة إلى نقطة مهمة تكون نتيجة لما أوضحنا فيه المطلب أعلاه، وهي أن تقنية الاتصال المتاح في كل مكان، ليس هي السبب الرئيس في انحراف الأفراد والمجتمعات، وإن كانت عاملاً مساعداً للانحراف، بل المشكلة تكمن في عدم تحصين الأبناء فكرياً وعدم إعدادهم نفسياً بشخصية ناضجة قوية تترفع عن الانحراف، وعدم إعداد شخصية، رقيبها الضمير الذاتي.
لذلك على جميع الآباء الالتفات إلى ذلك وسقي المفاهيم الأصيلة بماء الود وبالطرائق الصحيحة للتربية لا التسلط بالمنع ولا تركه على هواه عندها ستُقطف ثمار الورع عند الأبناء وتنزههم عن الرذائل، وسيكونون أكثر حفظاً من غيرهم بالتعامل مع تطورات العصر مع الحفاظ على أساسيات القيم والمبادئ.

تعليقات