أهل الكوفة بعد الواقعة



ضياء العيداني

ان المجتمع الاسلامي لا يتصف حق الوصف، الا اذا وصل الى مراتب ودرجات تجعله مؤهلاً لحمل صفة الاسلام، فالإسلام عقيده راسخة في القلوب تنعكس على سلوكيات ذلك المجتمع وأهمها التضحية بين يدي قادته بعد معرفتهم معرفة حقيقية، وبمقدار ما تكون المعرفة واضحة، تكون الاستجابة سريعة باتباع قادة الاسلام الحقيقيين والتسليم والوفاء والتضحية في سبيل العقيدة، فنحن نقرأ في زيارة الامام ابي الفضل العباس عليه السلام: (أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة)، وهي قمة الاعتقاد الحقيقي والايمان المتكامل الذي ينعكس على حامله. واذا اردنا ان نستعرض المجتمع الكوفي في واقعة الطف كأنموذج ينبغي ان ندرسه من خلال ردة فعلهم وسلوكهم و تسليمهم للدين فهل كانوا كذلك؟


ان المجتمع الكوفي قد حُكِم ردهة من الزمن على يد القائد الفذ الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي حكم القضاء بان تكون الكوفة مركز خلافته والمجتمع الكوفي اول من يخوض اختباره العسير في تطبيق النظام الاسلامي الكامل والحقيقي كما اراده رسول الله صلى الله عليه وآله، وكما اراده الله تعالى، فقد طرح دستوره عليهم وحكم فيهم وشرح لهم مفاهيم الدين فخرج العلماء والفقهاء وتثقف المجتمع بثقافة الإسلام، فعاش المجتمع العدالة والمساواة ولمسوا تواضع الامام وعلمه وتقواه وزهده وشجاعته، لكن بعد ان آل أمر الحكم بعد استشهاده عليه السلام، الى معاوية (لعنه الله) وبعد عقد الهدنة بينه وبين الامام الحسن عليه السلام، لمس أهل الكوفة الفارق الكبير بين عدل ومساواة وتقوى الامام علي وبين سلوك ونهج ولاة معاوية وابنه يزيد، فالولاية الاموية لم يكن همها إلا السلطة على عكس نهج الإمام عليه السلام الذي كان ينظر الى المجتمع قبل كرسي الحكم، يهتم بالصغير قبل الكبير ويتجول في اسواق الكوفة آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر بل إن من تواضعه كان ينوب عن ميثم التمار (رضوان الله عليه) لبيع التمر بدلاً عنه.

اما الحكام الاميون فقد كان دأبهم التكبر والطغيان وتجاهل القيم الاخلاقية والانسانية وكان هذا بادياً على سلوكهم وتصرفاتهم مع افراد المجتمع من هنا جاءت صرخة المجتمع الكوفي منادياً بقدوم الامام الحسين عليه السلام اليه، وهنا القول بأن اهل الكوفة قد رفعوا بالخطوة الاولى الصحيحة وهي معرفتهم بأهل الحكم الصحيح، حتى وصلت آلاف الرسائل الى الامام الحسين عليه السلام طالبين منه القدوم، ولكن هل استمروا على عهدهم للإمام؟ ولماذا حصل الذي حصل؟!

إن اهل الكوفة كمجتمع ارادوا حكماً سياسياً عادلاً وعرفوا نموذج العدالة المتمثل بأهل بيت النبوة عليه السلام ولكنهم ارادوا من الحسين عليه السلام ان يقدم عليهم ويجلس على الكرسي ليحكم فيهم من دون ان يتعبوا أنفسهم أو يضحون في سبيله، إلا العدد القليل من الممحصين الذين فهموا الدين وكانوا مؤمنين وليس فقط مسلمين، وكانوا مع الإمام علي عليه السلام قلباً وقالباً، لكن الغالبية لم تصل الى المستوى المطلوب بحيث يفهم من ان الإمام الحسين عليه السلام إمام مفترض الطاعة كما لم يصل بعضهم الى مستوى التضحية في سبيل هذا الدين، والبعض الآخر عدّ أمر الحكم مسألة خلافية بين المتنافسين عليه، يرسو لمن تكون له الغلبة والقوة العسكرية فخذلوا مسلماً عليه السلام رسول الحسين والإمام كذلك بعدم الإلتحاق لنصرته بحجة (مالنا والدخول بين السلاطين)!! والبعض الآخر عرف حقيقة الحسين عليه السلام وأهليته للحكم ولكن حبّ الدنيا كان أكبر من إيمانهم فهم كما يقول الإمام الحسين عليه السلام: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يدورونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون).

نعم...إن ساحة المواجهة بين الإمام الحسين عليه السلام وعمر بن سعد و أتباعه المدعومين من دولة يزيد الأموية لهي أكبر بلاء يتبين منها المؤمن الحقيقي عن غيره من الذين لا يهمهم إلا الدنيا، ولذلك خرج نموذج من أهل الكوفة كان يمثل قمة الإيمان كحبيب بن مظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة (رضوان الله عليهم)، بينما إنحرف عن إتباع الإمام الحسين عليه السلام الكثير وأصطف خلف جيش عمر بن سعد لأنهم أدركوا أن الأمر سيؤول بالإمام الحسين عليه السلام الى الهزيمة العسكرية والخسارة المادية، إذن فالدوافع لدى جيش بن سعد كانت بين ملك الري والدراهم والدنانير والجوائز والمغانم و.... وهي نفس الثغرة التي اخترقها معاوية خلال عهد الإمام علي وإبنه الحسن عليه السلام، بينما الأئمة الأطهار هم ليسوا بأقر ثراء من غيرهم وكان بإمكانهم استمالة الناس بالأموال والجوائز، لكن هذا يتعارض ونهج الأنبياء ورسالة السماء التي طالما تؤكد على الهدف المقدس وهو سمو النفس الإنسانية وبناء الذات لتجد الحلقة المفقودة بين الأرض والسماء.
ومن هنا نفهم أن ما قامت به العقيلة زينب عليه السلام بعد سبيها وأخذ نساء أهل البيت عليه السلام الى الكوفة، من تقريع وتوبيخ لأهل الكوفة من منطلق عاطفي فهي لم تكلم اليهود حتى يدخلوا الإسلام إنما كان هدفها فضح هذا المظهر المزيف من الدين الذي ظهر به بنو أمية وأوضحت في خطبتها من هو الإمام الحسين عليه السلام وأي جريمة ارتكبوها، وأيدت خطبتها بمعجزات إلهية حصلت بقولها (أعجبتم إن بكت السماء دماً؟) واستمرت في اسلوبها الوجداني الراقي الذي جعل المجتمع الكوفي منكوسي الرؤوس لايقوون على التفوه بكلمة وأخذ بعضهم بالبكاء والندم، وقد كان هذا الأمر دافعاً كبيراً لأهل الكوفة لأن يعيشوا صحوة الضمير، لاسيما وأنهم اكتشفوا السراب وليس الجوائز وايقنوا إنهم كانوا دمىً بيد الدولة الأموية التي لم يلمسوا منها أي خير دنيوي ولا أخروي وهذا ما شجع على ظهور كثير من الانتفاضات والثورات على الدولة الاموية، كثورة التوابين و ثورة المختار (رضوان الله عليه).

وبعد كل ذلك نفهم إن الدين الاسلامي يتمثل في أمرين اساسيين: الأول: الإيمان الكامل بمفاهيم وقيم الدين الاسلامي الحنيف ومعرفة قادته الربانيين الذين نصبوا من قبل الله تعالى لا بالوراثة ولا باختيار الأمة وما ذلك إلا بإتباع النبي وأهل بيته عليه السلام وأخذ العلم منهم خاصة. والأمر الثاني: الاستعداد للتضحية في سبيل هذا الدين وذلك برفع المؤمن درجات إيمانه بحيث يكون مؤهلاً لخدمة العقيدة و الدين متى ما طلب قادته والنصرة في سبيله وهذه التضحية لم تقتصر على وجود الشجاعة فقط بل على وجود الأهلية بإيمان يطغى على حب الدنيا فيصغر كل شيء في سبيل الدين من أهل ومسكن ومال ومنصب وغيره.

تعليقات