الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري.. من أحضان الأمومة الطاهرة إلى سماء العلم وقيادة الأمة



ضياء العيداني
إذا كان يفهم من مقولة (وراء كل عظيم إمرأة)، بان الزوجة لها دوراً كبيراً في تقدم الرجل ورقيه، فذاك لايعني أن المرأة دائماً هي الزوجة، لأنها ربما تكون الأم أو الأخت أو حتى البنت، عندما يكُنّ في مستويات عالية من الوعي والدراية والنضج، يتمكنّ من خلال ذلك تمهيد الأرضية الصالحة لمسيرة الرجل نحو النجاح، وهذا ينطبق على أحد أكابر مراجع الدين الشيعة في التاريخ، وهو الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي بلغ ما بلغ بفضل والدته التي عجنت العاطفة بالعلم، لتقدم ابناً للمجتمع تكون مؤلفاته من أهم مصادر الحوزة العلمية وما تزال.

ولادته ونسبه ونشأته:
هو الشيخ مرتضى بن محمد أمين بن مرتضى بن شمس الدين الأنصاري، ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد اللّه ‏الأنصاري الصحابي المعروف، أحد علماء الإمامية، ولد في مدينة ديزفول الواقعة جنوب إيران في يوم الغدير الأغر سنة 1214 للهجرة، كان (رضوان الله عليه) من أسرة علمية معروفة بالصلاح والتَّقوى، تعلّم قراءة القرآن والكتابة وهو في الخامسة من ‏عمره، وأخذ بعدهما في دراسة علوم الصرف، والنحو، والمنطق والمعاني، والبيان على يد والده و‏فضلاء مدينته، ثُمَّ قرأ المقدّمات عند عمّه الشيخ حسين، إلى أن صار عمره عشرين سنة، كما اكمل دراسته على يد السيد محمد المجاهد وشريف العلماء المازندراني في كربلاء، ثم عاد الى موطنه ديزفول، وبقي فيها يدرس ويربي مدة سنتين ثم عاد الى كربلاء، وبعد ذلك هاجر الى النجف الأشرف فحضر درس الشيخ موسى كاشف الغطاء، ثم قام بجولة في ربوع إيران فزار أصفهان، وخراسان، وأراك، ثُمَّ عاد إلى وطنه ديزفول، وبقي خمس ‏سنين، ثُمَّ سافر إلى النجف الأشرف، وكانت الزعامة العلمية آنذاك لرجلين، الشيخ علي كاشف ‏الغطاء، والشيخ محمَّد حسن النجفي (صاحب الجواهر) فأخذ يتردّد للحضور إلى درسيهما.‏
خاض تجربة بالتدريس والتأليف، فاختلف إليه طلاب العلوم الدينية، وقام بوضع أساس علم الأصول ‏والحديث عند الشيعة، انتهت إليه رياسة الإمامية بعد وفاة الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) وقام بها خير قيام، ‏وازدهرت الحوزة في زمانه، بحيث خرّجت ثلّة كبيرة، من العلماء والفضلاء.

كرامات الشيخ الأنصاري
قـدّم الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره) رداءً من الصوف كهدية للشيخ زين العابدين المازندراني أحد العلماء في حينه، فقبل الأخـير الهدية، واعتز بها أيما اعتزاز، بل لم يكن شيء آثر عنده منها. فصار يشتملها في الأعياد والمناسبات، لكن السنوات طبعت أثرها على الرداء، فذهب بريقها وانكسرت نضارتها، واتفق إن زار معين الممالك الشيخ زين العابدين في عيد من الأعياد، فوقع بصره على ردائه البالي، فأخذه خلسة ثم استأذن من الشيخ فـي الخروج، وبعد ساعة من خروجه عاد وفي يده رداء فاخر وثمين، وطلب من الشيخ أن يقبله كهدية متواضعة منه، لكن الشيخ اعتذر عن القبول، وعلّل ذلك بأن الرداء الذي كان يرتديه إنما هـو ذكرى غالية عليه من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) وإنه كان يرتديه من باب التيمّن والتبرّك، وعندما سمع معين الممالك ذلك أسقط ما في يده، وقرر ردّ الرداء اليه، وقـد تسامع الناس فيما بينهم أمر الرداء وقصته، فصاروا يتوافـدون على الشيخ زين العابدين بنية الاستشفاء والتـبرك وكذلك كان، حيث انهم كانـوا يرتدونه لحظات فيبرأون من مرضهم بإذن الله سبحانه.
علمه بما يحصل
كان طالب علم يدرس العلوم الدينية فـي كربـلاء اسمه الشيخ إبراهيم، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج، وكان عليه دَينٌ أيضاً، وكان أيضاً يريد الحج ولا يتمكّن من ذلك، فتردد الى حرم الإمام الحسين (ع) وأخيه ابي الفضل العباس (ع) واستمر ستة أشهر، وفي أحد الأيام رأى امرأة طلبت من الإمام العباس (ع) ان يشفي طفلها المريض بمرض الكزاز بعد عجز الأطباء عن شفائه، ووضعت ابنها في الحرم الشريف ثم مالبث ان تشافى الطفل من مرضه، فحزن الطالب لتأخير الطلب عليه، وتعجيل طلب المرأة القادمة من البادية، وعـزم الرجل على الذهاب إلـى النجف الأشرف، ولما وصل إلى الصحن الشريف جلس ليستريح، فإذا به يرى شخصاً يأتيه ويقول له: يا شيخ إبراهيم إنّـي خادم الشيخ مرتضى الأنصاري جئتك لأبلغك رسالة الشيخ، وأنّه ينتظرك في بيته، فتعجب الشيخ إبراهيم من كلام هـذا الرسول لأنه لـم ير الشيخ الأنصاري من قبل، واشتـدّ تعجّبه عـن كيفية علم الشيخ به وأنّه موجود في إيوان الصحن المطهّر، وذهب إلـى دار الشيخ، فاحترمه الشيخ الأنصاري وأعطاه ثلاث صرر قائلاً له: هذه الصرّة لحجّك وهذه لزواجك وهـذه لأداء دينك، فتعجب من معرفة الشيخ بحوائجه وازداد عجبـه من عتب الشيخ عليه وقال له: هناك فرقٌ بينك وبين تلك المرأة التي تشفع لها العبّاس (عليها السلام) فـي الحال، فأنت رجـلٌ عالم وعارف وتلك إمرأة قرويّة، فإنّ الله إذا لـم يعطها حاجتها كفـرت، وأمّا أنت فلست كذلك.

الشيخ الأعظم الأنصاري وأمه الصالحة
كانت أم الشيخ الانصاري من أسرة علمائية عريقة، جمعت بين العلم والعمل والفضل والأدب، ولاتقل شرفاً عن أسرة أبيه، وهي بنت الشيخ يعقوب ابن العلامة الشيخ الجليل احمد الانصاري، وكانت إمراة صالحة وعابدة ومؤمنة تقية، رأت في منامها قبل أن تلد ابنها مرتضى، الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) وقد أعطاها قرآناً مذهباً، ولعله من هذه الجهة كانت (رحمها الله) ترضع ولدها الشيخ بوضوء كلما أرادت إرضاعه، وكان لذلك العمل أثر في تكوين شخصية الشيخ الانصاري، وعندما ارتقى الشيخ الانصاري قمم العلم والفضيلة، قيل لها: هنيئاً لكِ، فقد نال ولدك رتبة الزعامة الدينية العليا للشيعة في العالم، قالت: لا عجب فقد كنت أتمنى له درجة أعلى من ذلك، لأنني ما أرضعته مرة إلا وأنا على وضوء، حتى في تلك الليالي والأيام الباردة كنت أقوم وأسبغ الوضوء ثم أرضعه وأنا على طُهر.
وقد ذكر المحقق العلامة الدكتور على المحمدي في كتابه (أستاذ الفقهاء والمجتهدين وقدوة العلماء العاملين الشيخ الأنصاري قدس سره) روائع كثيرة عن حياته والتي منها:
1-كان الشيخ الانصاري زاهداً في دنياه مكتفياً من طعامه بقرصيه، مقتدياً بإمامه أمير المؤمنين (عليه السلام) فيرى مساعدة الفقراء والمحتاجين من وظائفه وكان اهتمامه بالفقراء كبيراً جداً، وكان (قدس سره) يبكي عندما يرى فقيراً فيهم لمساعدته مساعدة حقيقية حيث لايحتاج بعدها لاحد، وكان الشيخ يصغي للمتكلم حتى لو كان من اصاغر طلبته واما عن عبادته فكان مواظبا عليها الى آخر عمره الشريف، من الفرائض والنوافل الليلية والنهارية والادعية والتعقيبات وكان مواظبا على أربعة أشياء بشكل يومي: قراءة جزء من القرآن الكريم، ثانياً: صلاة جعفر الطيار (عليه السلام)، ثالثاً: الإكثار من قراءة زيارة الجامعة ورابعاً: التلذذ بألفاظ زيارة عاشوراء.
2-كان الشيخ مرتبطاً بالإمام الحسين (ع) بشكل وثيق حيث سنّ الشيخ الانصاري (قدس سره) سنّة حسنة وهي زيارة الأمامين أمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهما) سيراً على الأقدام، حتى تحولت إحدى مفردات الشعائر الحسينية التي لا يتخلّى عنها المؤمنون في العراق، إلا في فترات معينة بسبب ظروف القمع والاضطهاد التي مارسها تحديداً نظام حزب البعث البائد في العراق، فيما اليوم تُعد من أبرز معالم زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليس فقط في زيارة الأربعين، وإنما حتى في زيارة الخامس عشر من شعبان.
وذكر مؤلف الكتاب المشار اليه، أقوال الشيخ الانصاري (قدس سره) والتي منها: (انا شخص فقير ويجب أن أعيش كأحد الفقراء) ومما قال ايضاً: (ما فعلت فعلا ولا قلت قولا إلا لله تعالى )، وقال أيضاً: (الحقوق شرعت لسد حاجة المعوزين لا ليتنعم بها الرؤساء والسادة والعلماء وابناء العلماء)، وأشار الدكتور علي محمدي في كتابه الى مؤلفات الشيخ الانصاري الخالدة والتى تُعد ميراث علمٍ ضخماً ترتكز عليه الحوزات العلمية لما تحمله من العلم الغزير ولعل ابرزها: رسالة في الارث، (رسالة في التقية)، (رسالة في التيمم)، (رسالة في الخمس)، (رسالة في قاعدة الضرر والضرار)، (رسالة في القضاء عن الميت)، (رسالة في التسامح)، (رسالة في مناسك الحج)، (رسالة في علم الرجال)، (كتاب الطهارة) (رسالة في القرعة)، (مطارح الانظار)، (رسالة في العدالة)، وغيرها من المؤلفات الضخمة التى اصبح بسببها رائد النهضة العلمية الحديثة، ولابد من الإشارة الى كتاب (المكاسب) في الفقه، الذي بات اليوم أحد المناهج الرئيسة في الحوزة العلمية ويُعد من مراحل دراسة الفقه بعد مرحلة المقدمات ويكون قبل مرحلة بحوث الخارج، وقد أطلق عليه عدد من العلماء لقب (الشيخ الأعظم) لمنزلته العلمية وفضله الكبير على الحوزة وحرصه على مسيرة طلب العلم.

الشيخ الأنصاري في ذمة الخلود
انتقل الى جوار ربه راضياً مرضيا ليلة السبت الثامن عشر من جمادى الثانية 1281هـ عن عمر ناهز السابعة والستين سنة، ودفن في صحن الامام علي (عليه السلام) في الحجرة المتصلة بباب القبلة، وقد اهتز العراق والعالم الاسلامي لهذا المصاب الجلل والثلمة الكبيرة التي أصابت الاسلام، ورثاه العديد من الشعراء والادباء تعبيرا عن حزنهم الكبير.
 
 
 
 
 

تعليقات