الحرمان العاطفي. . خطأ يدفع ثمنه الأبوان


- ضياء العيداني

التنشئة الاجتماعية هي العملية التي عن طريقها يسعى الآباء إلى إحلال عادات، ودوافع جديدة محل عادات ودوافع كان الطفل قد كوّنها بطريقة أولية. فالآباء يهدفون من خلالها إلى جعل أبناءهم يكتسبون أساليب سلوكية يرضى عنها المجتمع وتتقبلها الثقافة المحلية التي ينتمون إليها. أما أكثر الطرق استخداماً في اكتساب ألوان جديدة من السلوك فهي طريقة الثواب والعقاب وطريقة الملاحظة وطريقة التقليد. وهذه الطرق أو العمليات ليست مستقلة الواحدة منها عــن الأخرى بل هي على العكس متداخلة، وتكمل كل منها الأخرى، وهذا لا يكون الا اذا توافر وجود الأفكار التي تطرح للطفل والعاطفة التي تطرح من خلالها هذه الافكار، وهذان متمثلان بالاب والأم.
نقص العاطفة من قبل الأم
إن العاطفة والعقل جناحان متساويان لا يستطيع ان يطير بهما أي شخص اذا كان في احدهما خلل؛ فالحياة تستمر بوجودهما، وعلاقاتنا متوقفة عليهما، من العلاقات العائلية والاجتماعية والى الزوجية، حتى تنحدر لتشمل علاقة الأبوين بأولادهما، فالأب يشكل العنصر العقلي والأم تشكل العنصر العاطفي، وبهذين العنصرين يمكن للتربية ان تأخذ مكانها، فالأب يصب التربية التي هي من نتاج ثقافته وخبرته في الحياة، في قالب العاطفة الأموية التي تعد المسؤول الأول في بث روح الحنان والحب والمودة في الأسرة، والعاطفة روحٌ مُحِبـّة تسود أفراد الأسرة جميعاً، وتشعرهم أنهم منسجمون مع بعضهم، ولا تكون الحياة ذات بهجة بغير التفاف الجميع حول بعضهم، مشاركةً في الأفراح، ومقاسمة للهموم. . وصولاً للعيش الأفضل والأرغد.
غير أن العاطفة إذا ما أطلقناها من دون ضوابط فإنها سترتد سلباً على شخصية الطفل وسلوكه، ولن تخدم العملية التربوية؛ ولذلك فإن التوازن العاطفي أمر تحتمه التربية السليمة، انطلاقاً من أن التوسط في الأمور خير عون في سلامة أعمالنا كلها.
ولم يعد اليوم هناك أدنى شك حول العلاقة بين الحرمان العاطفي والانحراف (الابتعاد عن القيم المرغوبة في المجتمع) حيث ثبت من الدراسات العديدة- عن العلاقة بين الحرمان من حنان الأم والسرقة- مدى تكرار التصرفات غير المتكيفة في مؤسسات رعاية الأطفال المحرومين عاطفياً، كما أن التجارب الموجودة تظهر أن معظم الجانحين والمتشردين يعانون من أحد أشكال الحرمان الدائم أو المحدد بفترة زمنية من حياتهم، وأن هذا الحرمان لا زال قوة فاعلة في الآلام المعنوية التي يعانونها التي تسهم في دفعهم إلى الانحراف.
وقد قسمت الدراسات حالات الحرمان العاطفي من حيث الشدة إلى ثلاث فئات أساسية:
أ‌- الحرمان العاطفي الكلي: ويقصد به فقدان الطفل لأية علاقة بالأم أو من يحل محلها وذلك منذ الشهور الأولى للحياة، ويترك هذا النوع من الحرمان آثارا سيئة وخطيرة ودائمة على نمو الطفل جسمياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، وحينما يكبر هؤلاء الأطفال فإنهم يتصفون بشخصيات قلقة ويعانون من الخوف في مواجهة ضغوط الحياة ويتسمون بسلوك رضوخي انقيادي، وعندما يخرجون من المؤسسة التي ترعاهم إلى المجتمع يبدأ منهم في الأغلب نشاط جانح مثل السرقة لتأمين الطعام أو يسقطون في شرك العصابات والجانحين المحترفين، فيصبحون أدوات طيّعة لتنفيذ مآرب أولئك المجرمين.
ب‌- الحرمان العاطفي الجزئي:
وفيه يمر الطفل في مقتبل حياته بعلاقة مع الوالدين ويعقب ذلك الانهيار الجزئي أو الكلي لهذه العلاقة، وهو يترك آثارا واضحة على توازن وتكيف الشخصية مستقبلاً، وتتوقف هذه الآثار على أمرين اثنين: السن التي حدث فيها الحرمان، فكلما صغرت الســـن كانت الأضرار اللاحقة بالشخصية أكبر، وعلى نوعية العلاقة السابقة بين الطفل ووالديه قبل الحرمان، فكلما كانت العلاقة سلبية أدت إلى أخطار أكبر من ناحية التوازن العاطفي والتكيف الاجتماعي اللاحق.
ومن أسباب الحرمان العاطفي الجزئي طلاق الوالدين وزواج أحدهما أو كليهما ثانية أو موت أحدهما وزواج الآخر، أو هجر زوجي وسفر إلى أماكن بعيدة، مما يجعل الشريك عاجزاً عن تحمّل أعباء الأطفال فيهملهم بدوره جزئياً أو كلياً.
جـ - النبذ العاطفي من قبل الأهل:
في النبذ العاطفي يظل الطفل مقيماً مع أهله ويحتفظ بروابط أسرية سقيمة، بحيث يكون هو وأقرانه من الاولاد ابناء متساوون من حيث الهوية والانتماء، لكن تمزقهم حالة من التمييز بين ذكي وبليد، وبين جميل ودميم الخلقة، وبين الذكر والأنثى وهذه الحالة التمييزية طالما نلحظها في بعض أسرنا وعوائلنا. ولا تنهار العلاقة بين الطفل والأهل إلا بعد أن يجتاز مرحلة الطفولة أو في نهاياتها، ففي مرحلة الشباب سيصطدم الابن بهوة واسعة وكبيرة يعجز بذلك عن تجسير العلاقة بينه وبين اخوته أو اخواته فتكون الطامة الكبرى حيث سيدفع الابوان ثمن هذه الحالة عندما يجد هذا الابن صعوبة في اقامة العلاقة الحسنة معهما ايضاً. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة في نثر المحبة والحنان والعاطفة على الاولاد دون استثناء وعدم حرمانهم من هذه الغريزة الربانية التي أودعها الله تعالى بالأساس في نفس الانسان، وأن لا يبخل بها، حيث قال: (رحم الله عبداً أعان ولده على بره).

تعليقات