الفطام.. حكمة الله التي سبقت آراء العلماء

"وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ"

 ضياء العيداني

*المعنى اللغوي والطبي

في العربية الفطام والفصال كلمتان مترادفتان لهما معنى واحد، يقول صاحب لسان العرب: الفصال: الفطام أي قطع الولد عن الرضاع، أما المعنى الطبي له فإنه يعني موعد إدخال الأغذية المتنوعة بشكل تدريجي في تغذية الطفل الرضيع فضلاً عن حليب الأم أو الحليب الصناعي لتوفير العناصر الغذائية الضرورية له بشكل يتناسب مع تحسن قدراته على مسك الأشياء ومضغ الطعام وبلعه وتطور جهازه الهضمي والكليتين لديه.

*فترة الرضاعة

ليست هناك فترة زمنية محددة لبدء فطام الطفل، لكن تنصح هيئات التغذية واختصاصي طب الأطفال بالبدء في إعطاء الطفل الرضيع أغذية إضافية بشكل تدريجي ابتداء من الشهرين الرابع والسادس من عمره وعدم التبكير عن ذلك، وأن لا يكون الفطام قسريٌّا لأن عملية الانتقال الطبيعي للطفل من الاعتماد كليٌّا على ثدي أمه إلى تناول أغذية متنوعة قد تسيء إلى صحته، وتبدأ عملية تكيف الطفل الرضيع مع الظروف الجديدة في تغذيته عندما يكون صحيح الجسم ولا يشتكي من علة مثل ظهور أسنانه وينصح الأطباء بتأجيل البدء في الفطام في الحالات المخالفة لذلك، وتشير المراجع الحديثة إلى أن الإنزيمات والغشاء المبطن للجهاز الهضمي وحركية هذا الجهاز وديناميكية الهضم والامتصاص لا يكتمل عملها بصورة طبيعية في الأشهر الأولى بعد الولادة، وتكتمل تدريجيـًا حتى نهاية العام الثاني، ومجموع هذه الأبحاث يشير إلى أنه كلما اقتربت مدة الرضاعة الطبيعية من عامين كلما قل تركيز الأجسام المناعية الضارة بخلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين، وفي إشارة علمية دقيقة أخرى للقرآن الكريم نراه يحدد مدة الرضاعة بما يقرب من الحولين كما جاء في سورة (لقمان): "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنـًا على وهن وفصاله في عامين" ويُفهم من هذا أن إرضاع الحولين ليس حتمـاً، بل هو التمام ويمكن الاقتصار على ما دونه، كما أشارت الأحكام الإسلامية الخاصة بالرضاعة إلى ذلك.

*الرضاعة التامة ... بين القرآن والعلم

إذا كان الطب الحديث قد أثبت أفضلية حليب الأم كغذاء رئيس للطفل الرضيع, فإن دين الإسلام الحنيف قد حث على الرضاعة التامة، فقد حدد الكتاب العزيز فترة تمام الرضاع الطبيعي للطفل حتى بلوغه السنتين من عمره ودليله قوله تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" وقوله ـ سبحانه: " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا" ويستغرق الحمل الطبيعي للمرأة عادة تسعة شهور فيكون موعد فصال الطفل من رضاعها بعد 21 شهرًا (أي حوالي سنتين) من ولادته، ونجد نصوصا كثيرة في القرآن الكريم وفي أحاديث نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام تحث على الرضاعة وتؤكد حسناتها وثوابها، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ليس للصبي خير من لبن أمه)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه). وهذا ما أكد العلماء حديثاً على أن الغذاء التام للطفل هو من حليب أمه، وأن هذا الغذاء لا يكتمل إلا إذا أرضعت الأم ابنها سنتين كاملتين، لأن الطفل خلال السنتين الأوليين من عمره يكون بحاجة ماسة لحليب معقم مثل حليب الأم، ولا تقتصر فترة الرضاع لسنتين على فائدة الطفل بل للأم أيضاً فقد بينت الأبحاث الحديثة أن الإرضاع الطبيعي لمدة 24 شهراً يقي الأم من خطر سرطان المبيض بنسبة الثلث، وبالنتيجة هنالك تأكيد من قبل الأطباء على أهمية إرضاع الأم لابنها سنتين كاملتين، لما في ذلك من فوائد كبيرة والتي منها:

أولاً: الوقاية من مرض السكري

ينصح الباحثون في الوقت الحاضر بإطالة مدة الرضاعة من ثدي الأم للوقاية من مرض السكري الخطير، وللحفاظ على صحة الأطفال في المستقبل، وبناءً على الحقائق برزت في السنوات الأخيرة نظرية مفادها بأن لبن الأم يمد الطفل بحماية ضد عوامل بيئية تؤدي إلى تدمير خلايا (بيتا) البنكرياسية في الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك، وأن مكون الألبان الصناعية وأطعمة الرضع تحتوي على مواد كيميائية سامة لخلايا (بيتا) البنكرياسية، وأن ألبان البقر تحتوي على بروتينات يمكن أن تكون ضارة لهذه الخلايا.

ثانياً: الوقاية من أمراض القلب

وجد العلماء المزيد من الأدلة على أن الرضاعة الطبيعية تحد من احتمالات تعرض الأطفال للإصابة بأمراض القلب في مرحلة متقدمة من العمر، وفحص باحثون من معهد صحة الطفل أكثر من 200 مراهق جرى دراسة نوع رضاعتهم عندما كانوا أطفالاً، ووجدت الدراسة التي نُشرت في مجلة (لانسيت) العلمية أن الذين كانت رضاعتهم بشكل طبيعي يتمتعون بمعدلات كوليسترول أفضل كثيراً من الأشخاص الذين اعتمدوا على الألبان الصناعية في الرضاعة، يقول الدكتور أتول سينجال الذي قاد الدراسة في تقريره: تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن الرضاعة الطبيعية لها تأثير كبير ومفيد على صحة القلب على المدى الطويل.

ثالثاً: الوقاية من تصلب الشرايين

ربط الباحثون أيضاً بين الرضاعة الطبيعية وبين خفض مستويات بروتين يسهم في الإصابة بانسداد الشرايين، وتعزز هذه النتائج ما خلص إليه بحث سابق قال إن الرضاعة الطبيعية قد تساعد على الوقاية من الإصابة بتصلب الشرايين، ووجدت الدراسة أن تركيزات بروتين (سي) التفاعلي لدى المراهقين الذين اعتمدوا على لبن الأم أقل من تلك الموجودة لدى نظرائهم الذين اعتمدوا على الألبان الصناعية، ويرتبط وجود تركيزات كبيرة من هذا البروتين بإصابة الشخص بتصلب الشرايين.

رابعاً: الوقاية من المشاكل العقلية

توصل بحث استرالي إلى أن تغذية الأطفال الرضع على لبن الأم لمدة أكثر من ستة أشهر تجنبهم المشكلات العقلية مستقبلاً، وبحثت دراسة أجراها معهد تيليثون لأبحاث صحة الأطفال في بيرث على 2366 طفلاً، وخضع كل طفل لتقييم للصحة العقلية عندما بلغ عمرهم عامين وخمسة أعوام وثمانية أعوام و10 أعوام و14 عاماً، ووجد الباحثون أن الرضاعة من ثدي الأم تساعد الأطفال الرضع على التأقلم بصورة أفضل مع الضغط وربما يكون مؤشراً على ارتباط أقوى بين الأم والطفل وهو ما قد يقدم فوائد دائمة.
خامساً: الوقاية من السرطان

أظهرت دراسة حديثة أن المرأة إذا قامت بإرضاع طفلها لمدة سنة خلال حياتها كلها فإن ذلك يقلل من مخاطر إصابتها بمرض سرطان الثدي. وقد قامت مؤسسة أبحاث السرطان العالمية بتحليل 7 آلاف دراسة سابقة، وتوصلت إلى أن الرضاعة الطبيعية تقلل الإصابة بسرطان الثدي بنسبة 4.8 في المائة، وقد وجد أن الرضاعة الطبيعية تقلل من معدل الهرمونات التي تسبب الإصابة بالسرطان في جسم الأم مما يقلل من مخاطر الإصابة به. ووجد أيضا أنه بعد أن تنتهي الرضاعة الطبيعية يتخلص جسم المرأة من الخلايا الموجودة بالثدي التي قد يكون الحامض النووي فيها قد تعرض للضرر.

سادساً: زيادة مدَّة الرضاعة الطبيعية تزيد ذكاء الطفل

حسب دراسة علمية قام بها باحثون من النرويج بقياس المهارات وتطوير القدرات لدى الأطفال من 13 شهراً إلى 5 سنوات من العمر، فقد وُجد أنَّ الأطفال الذين يحصلون على رضاعة طبيعية مدَّة 6 أشهر أو أكثر، هم أفضل من الأطفال الذين لم يرضعوا إلاَّ 3 أشهر أو أقل من ناحية القدرات العقلية، وقد يعزى ذلك إلى أنَّ تركيب الحليب الصناعي الذي يُعطى للطفل لا يحتوي على ما في الحليب الطبيعي من أحماض دهنية وهرمونات نمو وغيرها، مما يظهر جلياً حكمة تحديد القرآن الكريم للرضاعة بعامين كاملين.
هذا هو الإسلام دين الهدى والحق، وهذا هو القرآن الكريم الذي أهدانا والبشرية جمعاء المنهج الصحي والتربوي المتكامل الذي يضمن سلامة الانسان، وهذا ما أثبته العلم الحديث في مناسبات عديدة، وإن كان ما زال هناك الكثير الكثير الذي لم يصل إليه العلم الحديث بعد.
 

تعليقات