من وحي العترة الطاهرة.. قراءة في أحاديث الائمة المعصومين

صلاح الأمة واركانه
إعداد: ضياء العيداني


ورد عن الإمام الباقر عليه السلام إنه قال: (صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر ملء مكيال: ثلثاه فطن، وثلث تغافل)
هذا الحديث عبارة عن فقرات من دستور اجتماعي يدعو الى الطريق الذي يتم فيه التفاهم في داخل الاسرة او المجتمع شعوبا وأمما، بغض النظر عن الانتماءات الاقليمية والمذهبية والطائفية..، فهو بحق دستور لصحة التعامل والاستقرار الاسري والاجتماعي حيث ربط الحديث صلاح الامة والناس بمفهومين وهما التعايش والتعاشر، وجعلهما على صيغة (مفاعل) لأنها صيغة تخرج لغرض المشاركة التي تحصل بين اكثر من فرد، والمعاشرة والمعايشة لا تتم الا مع الاختلاط مع الآخرين، ثم اتجه الحديث ليبين ركني المعاشرة وهما الفطنة والتغافل.
صلاح الناس
لا يمكن ان تستمر حياة بدون حالة من الامن والاستقرار، والذي من اهم بوادرهما هو صلاح الناس، وان البشر بطبيعته ميال الى الاجتماع لا الى الانطواء؛ فهو لا يستطيع ان يعيش لوحده وان يوفر كل مستلزمات مايحتاجه من خدمات لوحده، لذلك تعددت الوظائف والمهن كل بحسب مايرغب، وقد بين هذه الحقيقة القرآن الكريم بقوله: "َا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13"، فهذه حال الناس شعوب متعددة وقبائل لكي يتعارفوا، وان التعارف لابد له من اسس، واذا تم فلا بد له من ان يستمر، وان وقود استمراره هو بقاء الصلاح بين الناس، هذا الصلاح الذي بدوره يقوم على ركنين مهمين وهما:
الركن الأول : التعايش بين الناس
إن مفردة التعايش مأخوذة من العيش وهو الحياة فلابد أن يذعن الإنسان كما أن له حق الحياة على وجه الأرض بحرية تامة كذلك يجب أن يعترف ويذعن أن للآخرين أن يعيشوا بحرية تامة في هذه الحياة مهما اختلفوا معه في مفاهيم الحياة في اللغة أو الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الحاكمية والمحكومية أو غير ذلك وفي جانب تعايش الناس روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : (صانع المنافق بلسانك، وأخلص مودتك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته).
الركن الثاني: المعاشرة
وقد اهتم الإسلام بحسن المعاشرة من أصغر دائرة في المجتمع بين الزوج وزوجه إلى أعلا المستويات فيه مروراً بين علاقة الفرد بالمجتمع أو بالدولة وعلاقة الرئيس بالمرؤوس أو علاقة الدولة بالشعب أو بالأفراد أو بالدول الأخرى اتحدت اللغة أو الديانة أو المذهب أو القومية أم اختلفت كل ذلك الجميع مدعوون لحسن المعاشرة وقد نظم الإسلام هذه المعاشرة خير تنظيم سواء كان على مستوى الحقوق والواجبات أم على مستوى الندب والأخلاق الفاضلة والتنازل والإيثار وحسن الظن وقد امتلأت كتب الحديث بذلك ففي باب الإحسان للآخرين وصنع المعروف لهم قال الإمام الباقر ( عليه السلام ): من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليه فافعل. وهذا من باب حسن المعاشرة والمخالطة.
بل أصبح حسن المعاشرة وحسن الأخلاق من أسباب دخول الجنة وسوء الأخلاق من موجبات النار فقد روي عَنْ الامام عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام قَالَ : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): أَكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِي فِي النَّارِ الْأَجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَ الْفَرْجُ وَ أَكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِي فِي الْجَنَّةِ : التَّقْوَى وَ حُسْنُ الْخُلُقِ).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ).
ركنا المعاشرة: الفطنة والتغافل

ان المعاشرة التي يقوم عليها الصلاح بمنزلة مكيال ثلثاه فطنة وثلث تغافل، والتغافل لا يحصل إلا مع الفطنة فرجع كل الصلاح والخير للمجتمع إلى الفطن والوعي الذي يحمله الأفراد أو المجموعات، وهو ينقسم في بادئ الأمر إلى عدة أقسام، فمنه الوعي الديني، فالمتدين يلزم أن يكون واعياً من أصغر فرد في المجتمع إلى أعلى شخصية فيه كل بحسبه وأن يكون التدين قائماً على الوعي والمعرفة للدين الخالص "أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" (الزمر / 3) وأما إذا كان التدين مبنياً على الجهل والقشور للدين فإن هذا سيجر الويلات عليه وعلى المجتمع باسم الدين، فالوعي الديني يخدم الدين نفسه كما يصلح المجتمع، وما فسد مجتمعنا إلا لأنه لم يقم على الدين القويم، كما ان للوعي الاجتماعي دوراً مهماً ايضاً، فهو القائم على المدارات بين الناس وقد اهتم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بهذا الجانب أصبح عاملا من عوامل القرب إلى الله ودخول الكثير في الإسلام بل المدارات من أهم الوسائل للدعوة إلى الحق سبحانه، فعن النبي ( ص ) انه قال : إنا معاشر الأنبياء أمرنا بمداراة الناس، كما أمرنا بإقامة الفرائض.
أما التغافل عن ما يعلم: وهو من الامور التي ينبغي ان يعملها الفرد لكي تحسن معاشرته ومن ثم يعود الى الاسرة والمجتمع بالصلاح، وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه، تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور، ويقال: ما زال التغافل من فعل الكرام وبعض الرجال – هداهم الله – يدقق في كل شيء وينقب في كل شيء فيفتح الثلاجة يومياً ويصرخ لماذا لم ترتبي الخضار، أو تضعي الفاكهة هنا أو هناك، لماذا الطاولة علاها الغبار؟ وينكد عيشة الزوجة وعيشته، وكما قيل : ما استقصى كريم قط، كما أن بعض النساء كذلك تدقق في أمور زوجها ماذا يقصد بكذا؟ ولماذا لم يشتر لي هدية بهذه المناسبة؟ ولماذا لم يهاتف والدي ليسأل عن صحته؟ فلنتغاضى قليلاً حتى تسير الحياة سعيدة هانئة، لا تكدرها صغائر، ولتلتئم القلوب على الحب والسعادة، فكثرة العتاب تفرق الأحباب.
وهو ليس بمعنى الغفلة، بل فطنة ولكن لأمور لا تستحق اللوم والعتاب والمخاصمة، بل امور تافهة اذا تركها لا يترتب عليها محظور او تتوقف عليها امور بل هي امور ثانوية،
لذلك قال : الإمام علي (عليه السلام): إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل، وعنه (عليه السلام) : تغافل يحمد أمرك، وعنه (عليه السلام) : من لم يتغافل ولا يغض عن كثير من الأمور تنغصت عيشته، وقال : الإمام علي (عليه السلام) : لا حلم كالتغافل، لا عقل كالتجاهل، هذه النصوص وغيرها مما تدلل على أهمية التغافل وغضّ النظر والدور الذي يلعبه في صلاح الأفراد والمجتمعات.




     

تعليقات